مقدمة: مفهوم الصحة النفسية وأهميته
تعرف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها «حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلّم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي»، وهي حق أساسي للإنسان. إنّ تمتع الفرد بصحة نفسية جيدة يمكّنه من التطور الشخصي والاجتماعي والاقتصادي ويقوي قدرته على اتخاذ القرارات وبناء العلاقات .تُظهر الإحصاءات العالمية أن ما يصل إلى 20٪ من اليافعين يعانون اضطرابات نفسية بما يقترب من واحد من كل خمسة مراهقين، مما يؤكد حجم المشكلة وضرورة الاهتمام المبكر.
مرحلة المراهقة وتغيراتها النفسية والسلوكية
تُعدّ المراهقة مرحلة انتقالية فريدة بين الطفولة والبلوغ، تبدأ عادة من عمر 10 سنوات وتمتد حتى 19 عاماً. وفي هذه المرحلة تتسارع التغيرات الجسدية والهرمونية والعصبية والنفسية والاجتماعية. فمن جهة، يكتسب المراهق معرفة ومهارات تمكنه من التحكم بعواطفه وإدارة علاقاته، ويبدأ في بناء هويته الشخصية بعيداً عن الأسرة. ومن جهة أخرى، يواجه تقلبات مزاجية واضطرابات شعور بسبب الهرمونات الجديدة، وهذا قد يفسر ميله للتوتر أو العصبية أحياناً. وتؤدي أيضًا عوامل محيطة مثل الضغط الأكاديمي أو التغيرات الاجتماعية إلى زيادة حدة هذه التغيرات، حتى إن منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن التعرض للضغوط والتحديات (مثل الفقر أو إساءة المعاملة أو العنف) أثناء المراهقة يجعل المراهقين أكثر عرضة لمشاكل نفسية .
أبرز المشكلات النفسية الشائعة في مرحلة المراهقة
الاكتئاب: يظهر الاكتئاب في المراهقة بشكل متزايد، حيث تبيّن التقديرات أن حوالي 3.5٪ من المراهقين (15-19 عاماً) يعانون من الاكتئاب في وقت معين. يصاحب الاكتئاب تغيرات مزاجية حادة وفقدان الاهتمام، ويؤثر على التفكير والسلوك ويؤدي إلى مشاكل دراسية وحياتية. وقد يصل الأمر إلى التفكير بالانتحار في حالات الاكتئاب الشديدة.
القلق: تعتبر اضطرابات القلق أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً لدى المراهقين، فتصل النسبة إلى نحو 5.5٪ في الشريحة العمرية بين 15 و19 عاماً. يصاحب القلق المفرط الخوف المستمر أو الهلع، وقد يعطل الدراسة والعلاقات الاجتماعية. وغالباً ما يتشارك الاكتئاب والقلق أعراضاً مشابهة (تقلبات مزاجية، توتر شديد)، ويؤدي القلق بشدة إلى الانسحاب الاجتماعي والوحدة التي قد تفاقم الحالة النفسية .
اضطرابات الأكل: تندرج اضطرابات الأكل (مثل فقدان الشهية العصبي والشره المرضي) تحت الاضطرابات النفسية المهمة في المراهقة. تبدأ هذه الاضطرابات عادة في فترة المراهقة، وتتركز على خوف مفرط من زيادة الوزن. تؤثر بشكل رئيسي على الفتيات، وقد تترافق مع الاكتئاب والقلق، كما تتسبب في مشكلات صحية جسدية خطيرة. وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن حوالي 0.4٪ من المراهقين (15-19 عاماً) يعانون اضطرابات الأكل، وهي من أعلى اضطرابات الصحة النفسية مستوياتاً في الوفيات المبكرة (بسبب مضاعفات طبية أو انتحار).
الأسباب والعوامل المؤثرة
تتفاعل مجموعة من العوامل البيولوجية والبيئية والنفسية في التأثير على صحة المراهق النفسية:
العوامل البيولوجية والوراثية: تشمل التغيرات الهرمونية والدماغية (مثل نمو أجزاء المخ العصبية) وبعض الاستعداد الوراثي. فمثلًا أظهرت الدراسات أن العوامل البيولوجية (تعاطي مواد معينة، والعوامل الوراثية) يمكن أن تزيد من قابلية المراهق للإصابة باضطرابات نفسية.
العوامل الأسرية: تلعب الخلافات الأسرية أو انفصال الوالدين والإهمال دوراً محورياً. فقد وجدت الأبحاث أن نشأة قاسية أو عقاب بدني أمر شائع لها تأثير سلبي عميق في تنشئة الطفل ومخاطر إصابته بأمراض نفسية. كما أن اضطراب أو ضعف الروابط الأسرية يحجب عن المراهق الدعم العاطفي الضروري ويزيد من تعرضه للتوتر.
العوامل المدرسية والاجتماعية: يتعرض المراهق لضغوط أكاديمية عالية، وتوقعات من الأقران، وقد يتعرض للتنمر والنبذ. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن ضغوط التكيف مع الأصدقاء واستكشاف الهوية، فضلاً عن تأثير الإعلام والمعايير المجتمعية، يمكن أن ترفع مستوى التوتر لدى المراهق وتسهم في اضطرابه النفسي. كما يؤدي التنمر أو العنف في المدرسة إلى شعور بالعجز والخوف الدائم.
العوامل البيئية والاقتصادية: الظروف الصعبة مثل الفقر وعدم المساواة والحروب والكوارث تزيد الضغط النفسي على المراهقين. فالفقر أو عدم الاستقرار المجتمعي يعرض المراهقين لمخاطر أعلى لاضطرابات نفسية. كما أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي قد أسهم في رفع سقف المقارنات الاجتماعية والوحدة بين المراهقين، حيث حذّر الخبراء من أن الاستخدام المكثف لها يمكن أن يكون ضاراً نفسياً لبعض الشباب . الآثار المترتبة على إهمال الصحة النفسية لدى المراهقين .
إن إهمال مشاكل الصحة النفسية في المراهقة يؤدي إلى عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع:
تراجع الأداء الأكاديمي: يضطر المراهق المصاب بمشكلة نفسية إلى مواجهة صعوبات في التركيز والتعلم، مما ينعكس في تراجع العلامات وزيادة معدلات التسرب الدراسي
العزلة الاجتماعية: تزيد الأعراض النفسية (مثل الاكتئاب أو القلق) من انسحاب المراهق من نشاطاته اليومية ومعزلته عن الأصدقاء، ما يؤدي إلى تفاقم الشعور بالوحدة ويخلق حلقة مفرغة تزيد الأعراض سوءاً.
السلوكيات الخطرة: أحياناً يلجأ المراهقون غير المعالجين نفسياً إلى مطاردات مضرة مثل تعاطي المخدرات أو الانخراط في سلوك جنسي خطير. كما أن الاكتئاب المزمن قد يؤدي إلى إيذاء النفس أو محاولات الانتحار. وفي الواقع، يعتبر الانتحار من الأسباب الرئيسية لوفيات المراهقين؛ فقد أوردت منظمة الصحة العالمية أن الانتحار هو ثالث سبب للوفاة في صفوف من تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً.
طرق الوقاية والدعم: دور الأسرة والمدرسة والخدمات النفسية
يمكن للوقاية والدعم المكثف أن يقللا من انتشار الاضطرابات النفسية بين المراهقين ويقيما آثارها السلبية:
دور الأسرة: يجب أن يكون الأهل داعمين ومتفهِّمين، عبر فتح قنوات تواصل مستمرة والاستماع لمشاعر وأفكار المراهقين دون إصدار أحكام مسبقة. فوجود بيئة أسرية مستقرة ذات علاقات جيدة يعزز الشعور بالأمان ويقلل من التوتر النفسي. وينصح الخبراء بأخذ مشاعر المراهق على محمل الجد بدلاً من تجاهلها باعتبارها “مرحلة عابرة”
الخدمات النفسية والدعم المجتمعي: من الضروري توفير خدمات نفسية متاحة وسهلة الوصول للمراهقين، تشمل الفحص المبكر والتدخل العلاجي. وتشير التوصيات إلى أن برامج تعزيز الصحة النفسية يجب أن تعتمد نهجاً متعدد المستويات يشتمل على حملات توعية عبر الوسائط الرقمية والمجتمعية، وبرامج الرعاية الصحية والاجتماعية، والأنشطة في المدارس والمجتمع المحلي. كما ينبغي تحفيز المراهقين على استخدام مهارات التأقلم والمرونة النفسية في مواجهة الضغوط.
أمثلة أو دراسات حالة مختارة
إحصاءات عالمية: تُظهر التقارير الدولية أن عدد الأطفال والمراهقين الذين يعانون اضطرابات نفسية أو عقلية حول العالم يناهز 200 مليون شخص وهذه الأرقام الضخمة تعكس أزمة عالمية في صحة الشباب النفسية وتؤكد الحاجة إلى تدخلات عاجلة في كل الدول.
دراسات إقليمية وميدانية: على سبيل المثال، أظهرت بيانات من الولايات المتحدة أن نحو 60% من الفتيات المراهقات يشعرن بحزن أو يأس مستمر. كما أفاد تقرير لمراكز السيطرة على الأمراض أن واحدة من بين كل ثلاث فتيات هزمت على الأقل مرة بنية الانتحار في عام 2021، وهو ارتفاع بنسبة 60% مقارنة بالسنوات السابقة.
خاتمة
يتضح مما سبق أن فترة المراهقة حساسة وأساسية في تكوين شخصية الإنسان، وأن صحتها النفسية تؤثر في جودة الحياة والتعليم والمستقبل الاجتماعي للفرد. تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن الصحة النفسية ليست مجرد غياب الاضطرابات بل هي جزء متكامل من التنمية الشخصية والمجتمعية والاقتصادية. ومن المؤكد أن إهمال مشاكل المراهقين النفسية يترك آثاراً طويلة الأمد على مجتمعاتنا؛ فقد أوضحت المصادر أنّ استمرار الأعراض النفسية الطويلة الأمد عند الأطفال والمراهقين يضعف نوعية حياتهم الحالية والمستقبلية بشكل خطير . لذلك، يجب تكاتف جهود الأسرة والمدرسة والخدمات الصحية لوضع سياسات وبرامج داعمة، والحرص على الكشف المبكر والعلاج المناسب، مع الاعتراف بأن دعم صحة المراهق النفسية استثمار حيوي في صحة المجتمع ومستقبله