تُظهر الأدلة العلمية أن ممارسة الرياضة بانتظام تعود بفوائد نفسية واضحة على مختلف الفئات العمرية. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن النشاط البدني المنتظم يُقلِّل أعراض الاكتئاب والقلق، ويعزِّز صحة الدماغ والعافية العامة. وهذا يدعم الملاحظة الشائعة بأن الأشخاص الذين يمارسون الرياضة بانتظام يتمتعون بمزاج أفضل وبمعدلات أقل من الاضطرابات النفسية. كما أفادت مراجعات حديثة بأن التمارين الرياضية ترفع مستوى الثقة بالنفس وتحسِّن تقدير الذات، وتُقلل التوتر العصبي وتتيح للمرء التركيز على تحقيق أهدافه بدلاً من الأفكار السلبية. وتشمل الفوائد النفسية المثبتة: تحسين المزاج، وتقوية الشعور بالإنجاز، والقدرة على الاسترخاء، والتخفيف من أعراض الاكتئاب الخفيف والقلق. إضافة إلى ذلك، تحسن الرياضة من جودة النوم، ما يساعد بدوره على ضبط المزاج والتخفيف من الضغوط.
الآليات العلمية الكامنة
تُعزى هذه الفوائد النفسية لعدة آليات علمية متداخلة، منها:
الإفراز العصبي والهرمونات: تساعد التمارين على زيادة إفراز النواقل العصبية والهرمونات المسؤولة عن الشعور بالسعادة، مثل الإندورفينات والدوبامين والسيروتونين، مع خفض مستويات هرمونات التوتر (الأدرينالين والكورتيزول). تسمى هذه الظاهرة أحيانًا «نشوة العدائين»، حيث تؤدي الاندورفينات إلى تخفيف الألم ورفع المعنويات. وقد أشار باحثون إلى أن النشاط البدني المستمر يعزز عمل محور الغدة النخامية-الكظرية (HPA) المسؤول عن استجابة الجسم للضغط، مما يساهم في تقليل أعراض الاكتئاب والقلق.. فالرياضة تحسِّن عادات النوم وتقلل من حالات الأرق الناجمة عن التوتر، وهذا بدوره يعزز القدرة على التحكم العاطفي واليقظة الذهنية.
تقوية الثقة والتقدير الذاتي: تؤدي التمارين الرياضية إلى تحسين اللياقة البدنية والمظهر الخارجي تدريجيًا، ما يرفع من تقدير الذات وصورة الفرد عن نفسه. فالإنجازات الرياضية تحقق شعورًا بالسيطرة والكفاءة، حيث يشعر المتمرِّن بالإنجاز والفخر بقدرته على التحدي والتغلب على العقبات.
الدعم الاجتماعي والتفاعلات الجماعية: كثير من الرياضات تُمارس جماعيًا أو في أماكن عامة، مما يتيح فرصًا للتواصل الاجتماعي وبناء صداقات ودعم نفسي متبادل. ممارسة الرياضة مع أصدقاء أو زملاء العمل تزيد من الحافز للاستمرار، وتخفّف الشعور بالوحدة والاكتئاب من خلال مشاركة النشاط مع الآخرين.
التشتيت الإيجابي وتحقيق الهدوء: أثناء ممارسة التمارين يتركز ذهن الفرد على حركة جسده وتتلاشى الهموم اليومية مؤقتًا، ما يمثّل شكلًا من أشكال «التأمل أثناء الحركة» الذي يهدئ العقل ويقلل الحدة الشعورية للتوتر. في النهاية، فإن هذه الفوائد الفيزيولوجية والنفسية مجتمعة تساهم في تقليل الضغوط اليومية وخفض مستويات القلق والاكتئاب لدى الأفراد الذين يمارسون الرياضة بانتظام.
أدلة علمية حديثة تدعم العلاقة
تدعم العديد من الدراسات الحديثة الفوائد النفسية لممارسة الرياضة. على سبيل المثال، أظهرت مراجعة منهجية حديثة (2025) شملت 30 دراسة عشوائية أن تدخلات النشاط البدني في المدارس والأماكن العامة حسَّنت الصحة النفسية للأطفال والمراهقين بشكل ملحوظ، حيث قلَّلت القلق والاكتئاب والضغط النفسي، وعزَّزت احترام الذات والمهارات الاجتماعية لديهم. وفي البالغين، أشارت مراجعة واسعة إلى وجود ارتباط عكسي جرّي بين مستوى النشاط البدني وخطر الإصابة بالاكتئاب؛ إذ أظهر تحليل تلوي أن الأشخاص الذين يمارسون نشاطًا بدنيًا يحقق نصف الوصية الدولية (حوالي 150 دقيقة معتدلة أسبوعيًا) لديهم خطر اكتئاب أقل بنحو 18%، وتناقص الخطر إلى 25% حين يحققون الوصية الكاملة. كما خلصت دراسة حديثة إلى أن الأنشطة الهوائية (المشي أو الجري الخفيف) وتمارين اليوغا وتمارين القوة كانت الأكثر فعالية في تقليل أعراض الاكتئاب مقارنةً بالأشكال الأخرى للتمرين. وفي الفئات العمرية الأكبر، وجد باحثون أن برامج تمارين منتظمة تحسِّن المزاج وتقلل القلق عند كبار السن كذلك. فمثلاً، بيّنت دراسة أجريت على كبار السن المصابين بالسرطان أن مشاركة هذه الفئة في برامج تمارين منتظمة خفّضت مستويات الاكتئاب والقلق بشكل ملحوظ، وحسّنت جودة حياتهم النفسية بشكل ملحوظ. وبالإضافة إلى الحالات المرضية، تشير مراجعات حول كبار السن الأصحاء إلى أن التمارين الهوائية والمقاومة تحسّن وظائف الدماغ والذاكرة وتؤخر التدهور المعرفي لديهم، وهو ما يتقاطع مع أثر الرياضة الإيجابي على الصحة النفسية عبر الحفاظ على القدرات المعرفية. كما تدعم الدراسات الدولية فائدة النشاط البدني للصحة النفسية: فقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن النشاط البدني المنتظم يُمكن أن يقلل خطر الإصابة بالاكتئاب بنحو 30%، وتُشير إلى أن زيادة النشاط في المجتمع هي وسيلة وقائية مهمة لصحة الدماغ. كذلك يؤكد مركز مايو كلينك ودور النشر الطبي الكبيرة أن ممارسة أي شكل من أشكال الرياضة يرفع مستويات الإندورفين ويقلل التوتر النفسي.
اختلافات التأثير بحسب العمر ونوع التمرين
تشير الأدلة إلى وجود بعض الفروق في كيفية استفادة مختلف الفئات من الرياضة:
الأطفال والمراهقون: تميل الرياضات الجماعية مثل كرة القدم والسباقات المدرسية والرحلات إلى تعزيز الترابط الاجتماعي وتنمية المهارات الشخصية لهم، ما يساعد في بناء الثقة بالنفس والتواصل وتخفيف التوتر المدرسي. ووجدت دراسة أن المراهقين الذكور استفادوا بشكل خاص من تدخلات النشاط البدني التي خفّضت مستويات التوتر. عمومًا، فإن النشاط البدني المنتظم يبني عند الأطفال البنية العظمية ويعزز القدرات المعرفية بجانب مزاياه النفسية.
البالغون: تتحقق أكبر الفوائد النفسية من التمارين المنتظمة عالية الكثافة أو معتدلة الشدة مثل المشي السريع، الجري الخفيف، ركوب الدراجات، والسباحة. وتظهر الأبحاث أن المشي/الجري واليوغا وتمارين القوة (رفع الأثقال) تعطي تأثيرًا أقوى لتخفيف الاكتئاب مقارنةً بتمارين أخرى. كما تشير تجارب إلى أن ممارسة الرياضة الفردية (كالجري أو ممارسة تمارين المقاومة) تعزز الإحساس بالتحكم في الذات والثقة الشخصية، بينما الأنشطة الجماعية (مثل الرياضات الجماعية أو فصل اليوغا المجموعات) تتيح فرص دعم اجتماعي وتقليل الشعور بالوحدة.
كبار السن: من المهم التركيز على التمارين المناسبة لهذه الفئة مثل المشي وركوب الدراجة والتمارين المائية وتمارين التاي تشي واليوغا، التي تمزج بين اللياقة البدنية والاسترخاء. فقد أظهرت دراسات أن هذه التمارين الهادئة تخفف القلق وتحسن المزاج وتساعد على النوم الجيد لدى كبار السن. كما وجد أن تمارين المقاومة الهوائية ترفع تدفق الدم إلى الدماغ، وتحسن الوظيفة الإدراكية لديهم، مما يعزز إحساسهم بالاستقلالية ويحميهم من تدهور الصحة النفسية المرتبط بالتقدم في العمر.
بشكل عام، تبدو الفروقات بسيطة نسبيًا: جميع الأنشطة البدنية تساعد على تخفيف التوتر النفسي، أما الاختلاف فـ في شدة التمرين وشكله ونمط حياة الشخص. ويُشدد الخبراء على أن الاستمرارية أهم من النوع المفضل، فالالتزام بنشاط يمارسه الشخص بسلاسة ضمن روتينه يعد أكثر جدوى من اختيار رياضة بعينها بغض النظر عن الاستمرار فيها.
توصيات منظمة الصحة العالمية والجهات الطبية
تؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO) والهيئات الصحية العالمية على أهمية ممارسة الرياضة من أجل الصحة النفسية والجسدية معًا. فالـWHO توصي بأن يمارس البالغون 150 دقيقة أسبوعيًا من النشاط البدني المعتدل الشدة أو 75 دقيقة من النشاط الشديد على الأقل. كما تنبه إلى أن أي قدر من النشاط البدني أفضل من اللّا نشاط بالمرة. وقد ربطت إحصائياتها الرسمية بين ممارسة هذا القدر من التمارين وتخفيض خطر الاكتئاب بنسبة تتراوح بين 28–32%. وتوصي وكالة الصحة الأمريكية (HHS) بالمثل بـ150 دقيقة معتدلة أو 75 دقيقة نشطة أسبوعيًا للبالغين، مشيرةً إلى دمج تمارين القوة العضلية مرتين على الأقل في الأسبوع. كذلك تذكر منظمات طبية مرموقة أن الرياضة لا تحتاج إلى مجهود مضنٍ، فحتى المشي السريع أو الرقص المنزلي أو البستنة يمكن أن تسهم في تحسين المزاج والتقليل من الضغط النفسي. وتنصح تلك الجهات بأن يبدأ كل شخص النشاط تدريجيًا واختيار ما يُحب من الأنشطة ليستمر بها. خلاصة التوصيات هي أن النشاط البدني المنتظم ضروري للصحة الشاملة، وإذا كان الهدف الأساسي هو تحسين الصحة النفسية فإن أفضل نصيحة هي أن يبدأ الفرد بالتمرين الآن – أيًا كان النوع أو الدرجة – لأن أي حركة أفضل من عدم الحركة